وبهذه الطريقة، فإنهم لم يجروا أنفسهم فقط إلى الشرك، بل أعداداً كبيرة من الناس معهم. إن الناس الغير مدركون لجوهر القيم الأخلاقية الإسلامية و لتعاليم الإسلام الصحيحة يتبنون هذا الدين المشوه الجديد، بل والأسوأ من ذلك أنهم ينظرون إلى هؤلاء "الزعماء" على أنهم مشرعون شرعيون من دون الله. وكنتيجة لذلك، فإنهم يتبنون الشرك على علم منهم، وذلك بإنحرافهم وجعل الشركاء له تعالى وتقديس زعمائهم الذين ضلوا، كما فعل الّذين من قبلهم:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة:31)
إن الآيات التالية تصف طريقة تفكير المجتمعات المشركة ومنطقه:
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) ( الأنعام 140-137)
كما تظهر لنا هذه الآيات، فإن لدى المشركين نزعة إلى تحريم نعم الله و ما أحل بوضعهم تشريعاتهم الخاصة بإسم الدين. إن عقليتهم التي تقوم على التحريم مشوهة للدين. ويركز القرآن على أباطيلهم وأكاذيبهم الموجهة ضد الله تعالى. وكما يظهر من ذلك، فإن هؤلاء الأشخاص يظهرون بإسم الله ويدعون أنهم يعملون لدينه. فتخبرنا الآية الأولى أنهم ينشرون الإرباك فى الأمور الدينية، وتخبرنا الآية الثانية أنهم ينشؤون ديناً مختلفاً تماماً، ديناً لا يأذن به الله ولا يرضاه:
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الشورى 21)
ليس مهم إلى أي مدى يظهرون متمسكين بالدين، وليس مهم مراقبتهم وتأديتهم للشعائر الدينية، وليس مهم إلى أي مدى يدعون أنهم مخلصين وورعين، فهم في نظره تعالى ليسوا إلا مشركين.ويطلعنا القرآن كيف أن المشركين إلتزموا بنفس المقتقدات المنحرفة ثم قاموا بتوريثها من جيل إلى جيل:
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام 148)
تخبرنا هذه الآية كيف أن المشركين يتبعون ظنونهم وأهوائهم لتحريف الحقائق الدينية. بعض الآيات الأخرى تصف كيف أنهم يفضلون دين أسلافهم المشوه على الإسلام:
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) (الزخرف 24-22)
بإصرارهم الأعمى على الإستمرار على دينهم السلفي، يرفض المشركون الإستماع إلى المنطق. إن ذلك، أضف إليه عقليتهم المتزمتة، المنحازة والمنحرفة، مذكور في آيات عديدة منها:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (البقرة: 170)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (المائدة 104)
حتى الآن، رأينا كيف أن المشركين ينحرفون عن الطريق القويم بسبب عدم اتخاذهم القرآن كأساس عقائدي لهم. بدلاً من ذلك فإنهم يفضلون إتباع إرث أجدادهم، أعمالهم وعلمهم الذي ورثوه عنهم. فإذا حرم أجدادهم ما أحل الله، إتبعوهم في ذلك. غير أن اتباع ملل الأجداد ليس من الدين الحق في شيء. فالذين يخافون الله تعالى ويتقوه ويسعون إلى رضوانه عليهم أن يلتزموا فقط بالتشريعات الصادرة عن القرآن وعن الرسول (ص)، وعدم اتباع تقاليد الأجداد.
إذا تأملنا في الآيات التي تتناول المشركين نجد أن بعض هؤلاء يشكلون فرق إجتماعية تملك من الصفات، العقائد، والتركيبات المشتركة ما يميزها عن غيرها من فرق مشركي الأديان الأخرى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (الحج 17)
إن السمة المشتركة لبعض الفرق المذكورة هنا هي أنهم أعضاء في نظامهم العقائدي الخاص. من الواضح أن ما يقصد هنا هو الفرق الباطلة التي تبنت نظامها العقائدي الخاص. ولكن من هم هؤلاء؟
نجد الإجابة عن هذا السؤال عند عرب ما قبل الإسلام. فقد هذه المجتمعات بتبني نظام عقائدي وتعبدي خاص بها، ومنحرف عن الدين الّذي أتى به النبي إبراهيم (ع). فهم عبدوا الأصنام ولكنهم لم ينكروا وجود الله تعالى. ومع أنهم أدركوا أنه تعالى موجود إلا أنهم إعتبروا آلهتهم مساوين له، وهكذا انحدروا نحو الشرك. وحتى أنهم زعموا أن آلهتهم تشفع لهم أمامه تعالى:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (يونس 18)
يخبرنا القرآن أن هؤلاء المشركين كانوا يذهبون إلى الحج، يستقبلون الحجاج، يزورون الكعبة، يصلون وينفقون المال في سبيل الله تعالى. بكلام آخر، فإنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أفراداً مخلصين وملتزمين. ولكن بما أنهم لم يفردوه تعالى بالعبادة، وبما أنهم كانوا يؤدون هذه الأعمال في سياق نظامهم الشركي، فإن هذه الأعمال لم تعُد عليهم بأية فائدة.ليس مهم إلى أي مدى إعتقدوا أنهم كانوا مخلصين، أتقياء أو متفانين لله، وقد حرم الله عليهم دخول المسجد الحرام :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) (التوبة28)
بما أن القرآن موجه إلى الناس المعاصرين لكل زمان ومكان، فعلينا أن نتأمل كيف تنطبق حِكَمَه في يومنا هذا. إن الآيات التي تخص المشركين، إو تصرفات وعقلية الذين فرقوا دينهم بإسم الإسلام، والذين اتبعوهم ودعوا غيرهم إلى فعل ذلك أيضاً، تصف بوضوح هؤلاء القوم. إذاً، فالأشخاص المعاصرين في هذه الأيام الذين يتصرفون بنفس الطريقة ويتشابهون في العقلية مع من ذكرنا، والذين يتعبدون بدين إبتدعوه، هؤلاء تتطابق أوصافهم مع وصف المشركين في الآيات. اليوم، في الواقع، في زمن تنتشر فيه المعتقدات الباطلة بإسم الدين، فإن الذين يضعون القوانين والفرائض، الذين يحددون الحلال والحرام، والذين يتبعونهم، يشكلون الفرق المشركة الثي تفتري الكذب على الله تعالى، تلتزم بدين الأجداد عوضاً عن دينه تعالى وتقول على الله ما لا تعلم.
بالإضافة الى ذلك، يزعم هؤلاء ان دينهم هو الدين الصحيح وأنهم هم المؤمنون الحقيقيون. ولهذا السبب، فقد حرفوا في دينهم وتحولوا إلى الشرك. بغض النظر عن الوقت والمكان، فقد كان هؤلاء دائماً ما يرفضون الرسل المرسلة إليهم لإعادتهم إلى الدين الصحيح، معتبرين أنفسهم مخلصين وثابتين على الإيمان. حتى أن بعضهم اتهم رسل الله بافتراء الأكاذيب على الله (آل عمران 78 وسبأ
، وهذه الإتهامات هي نفسها قُذف بها نبيّنا محمد (ص)، كما تطلعنا سورة الشورى 24.
آيات أخرى تشير إلى هؤلاء المشركين:
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (
(ص 8-4)
بإقناع أنفسهم أنهم على الصراط القويم، فإن هؤلاء القوم لن يتقبلوا واقع أنهم كانوا مشركين حتى في يوم الحساب:
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) (الأنعام 23-22)
كما تُطلعنا هذه الآيات، فإن ما يكمن في قلوب الإشخاص " الأتقياء " الذين يجعلون لله أنداداً هو إلتزامهم بالقوانين التي ابتدعوها بإسم الدين، عوضاً عن التي أنزلها الله تعالى. ولكن هذا ليس السبب الوحيد لتحول الذين يتخذون هدياً غير القرآن إلى الشرك. فقبل كل ذلك، فهم يضلون بسبب فشلهم في التعرف إلى الله تعالى وتقديره حق قدره جاعلين بذلك آلهتهم تتساوى مع الله. وعدا عن ذلك، فإن حبهم ومفهومهم لله لا علاقة له بما ذكر في القرآن في هذا الشأن. فالسبيل الوحيد لقدر الله حق قدره وفهم دينه بالطريقة الصحيحة يكون بأن نتخذ القرآن مرشداً وهادياً لنا.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل 89)