تفادي المسؤولية التي تترتب على التفكر
يظن معظم الناس أن بإمكانهم التملص من مختلف المسؤوليات عبر تفادي اللتفكر وتشغيل ذهنهم بقضايا معينة، وهم يحسبون أنهم إن فعلوا ذلك فسوف ينجحون بإبعاد أنفسهم عن كثير من الموضوعات. فواحدة من الطرق التي تخدع الناس تكمن في افتراضهم أن بإمكانهم التهرب من مسؤولياتهم تجاه ربهم عبر عدم التفكر، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الناس لا يتفكرون بالموت والبعث من بعده. أذا تفكر المرء أنه سيموت في يوم ما، وتذكر أن هناك حياة أبدية بعد الموت، فإنه بالضرورة سيجاهد بشدة لحياته بعد الموت.. لكن مع ذلك، ترى بعض النفس يخدع نفسه خداعاً عظيماً بافتراضه أنه تخلص من هذه المسؤولية عندما لا يتفكر في وجود الآخرة، فإذا لم يحرز الإنسان الحقيقة في هذه الحياة الدنيا فإنه سوف يفهمها عندما يدركه الموت الذي لا مهرب منه ?وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد? ]ق:19-20[ .
عدم التفكر بسبب الانجراف في تيارالحياة اليومية
غالبية الناس يقضون حياتهم كلها في" عجلة"، فعندما يصلون الى سن معينة يتوجب عليهم العمل والاعتناء بأنفسهم وبأسرهم. ويسمون ما يفعلونه"كفاحاً من أجل الحياة" ويشكون من عدم وجود وقت لديهم ليفعلوا أي شيء إذ عليهم أن يندفعوا في سبيل كفاحهم هذا. وفي غمرة "ضيق الوقت" يصبح التفكر من الأشياء التي لا يمكنهم تخصيص أي وقت لها. ولذلك فإنهم ينجرفون الى أي مكان يسحبهم اليه تيار الحياة اليومية. وبطريقة العيش هذه يفقدون الاحسلس بالأمور التي تجري حولهم.
وعلى كل حال لا يجب أن يكون هدف الانسن تبديد الوقت بالاستعجال من مكان الى آخر. فالمهم أن يكون الاناسن قادراً على رؤية الوجه الحقيقي لهذه الحياة واتخاذ أسلوب للعيش وفقه. ولا يجب أن تقتصر غايات الانسان على كسب المال، أو الذهاب الى العمل أو الدراسة في الجامعة أو شراء منزل.. فقد يحتاج الانسن باتأكيد الى القيام بهذه الأشياء، ولكن عليه عند القبام بها أن يضع نصب عينيه دائماً أن هدف وجوده هو أن يكون عبداً لله وأن يسعى لاكتساب مرضاته ورحمته ودخول جنته، وباقي الأعمال تنفع كوسائل تعين الانسان على الوصول الى غايته الحقيقية. أما اتخاذ هذه الوسائل كغايات حقيقية وأهداف محددة فإنه خداع كبير يضل به الشيطان الانسان.
ومن يعيش دون أن يتفكر قد يجعل من هذه الوسئل غايته الحقيقية بكل سهولة. ويمكننا أن نضرب مثالاً على ذلك من حياتنا اليومية. فمما لا شك فيه أنه من الحسن أن يعمل وينتج أشياء ذات منفعة لمجتمعه. والمؤمن بالله ينجز مثل هذه الأعمال بحماس ويرجو الثواب من الله تعالى في الحياة بعد الموت. أما إذا قام إنسان بنفس العمل دون أن يذكر الله ولأساب دنيوية فقط مثل السعي وراءالمنصب أو تقدير الناس فإنه يرتكب خطأً، لأنه حوّل أمراً ما من وسيلة لكسب مرضاة الله الى غاية. وسوف يندم على فعلته عندما يواجه الحقائق في الآخرة. وفي الآية التالية يشير الله سبحانه وتعالى الى أولئك الذين ينغمسون في هذه التصرفات في الحياة الدنيا بما يلي:?كالذين كانوا من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذي من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون? ]التوبة:69[
النظر الى كل شيء بعين العادة وبالتالي عدم رؤية أية حاجة للتفكر فيها
عندما يصادف الناس أموراً معينة للمرة الأولى قد يفهمون طبيعتها الاستثنائية مما قد يحفزهم على التحري أكثر عما يرونه. ويعد فترة تنشأ لديهم مقاومة اعتيادية لهذه الأشياء فلا تعود تؤثر بهم.
وبالتحديد فإن الأشياء والأحداث التي يلاقونها كل يوم تصبح عادية بالنسبة لهم.
فعلى سبيل المثال قد يتأثر من يدرس الطب تأثراً بالغاً عندما يرى جثة للمرة الأولى أو في المرة الأولى التي يموت فيها أحد مرضاه. مما يجعلهم يتأملون ملياً. ويمكن ان يكون السبب أنهم يواجهون انساناً بلا حياة أشبه بالبضاعة، كان منذ دقائق مليئاً بالحياة يضحك ويخطط ويتكلم ويستمتع وتلمع عيناه بالحياة.. وعندما توضع الجثة أمامهم للتشريح للمرة الأولى فإنهم يتفكرون في كل شيء في هذه الجثة, يتفكرون بأن الجسد يفنى بسرعة كبيرة, وأنه تفوح منه رائحة نتنة، والشعر الذي كان جميلاً فيهما مضى يصبح غير جميل ولا يود أحد لمسه.. وبعد ذلك يتفكرون في أن مكونات كل الأجسام هي نفسها وكل واحد منا سيلاقي نفس النهاية, وأنهم هم أيضاً سينتهون الى هذا الشكل.
ولكن بعد رؤية بضع جثث أو فقدان بضعة مرضى ينشأ لدى هؤلاء الناس مقاومة اعتيادية لأشياء محددة فيبدأون بالتعامل مع الجثث وحتى المرض وكأنهم أشياء.
وبالتأكيد هذا الوضع لا يصدق على الأطباء وحدهم, فغالبية الناس ينطبق عليها هذا الوضع في مناحي مختلفة من حياتهم. فمثلاً ينعم الله على انسان يعيش في ظروف صعبة برغد العيش فإنه يفهم ان كل ما يمتلكه رحمة له. فسريره أصبح أكثر، ولبيته منظر جميل, ويمكنه ان يشتري ما يريد ويمكنه أن يدفئ منزله في الشتاء كما يرغب، وبإمكانه التنقل بسهولة بسيارة.. وغيرها من النعم كلها التي قسمت لهذا الانسان، وبالنظر بوضعه السابق فإنه يبتهج بكل واحدة منها، ولكن من يمتلك هذه الأشياء منذ نعومة أظافره قد لا يتفكر في قيمتها كثيراً.ولا يمكنه تقدير هذه النعم إلا إذا أعاد التفكر فيها.
ومن الناحية المقابلة فالإنسان الذي يتفكر لا فرق عنده إذا سواء كان امتلاكه لهذه النعم منذ ولادته أو أنه أحرزها فيما بعد. فهو لا ينظر إلى ممتلكاته بطريقة اعتيادية إذ انه يعلم ان أي شيء يملكه قد خلقه الله وأن الله قادر على استرجاعه منه لو شاء. فمثلاً يدعو المؤمنون بالدعاء التالي عندما يركبون دوابهم, وهي السيارات في أيامنا هذه:? لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنّا الى ربنا لمنقلبون ? ]الزخرف:13 [
وفي أية أخرى، يتعلم المؤمنون أن يقولوا إذا ما دخلوا حدائقهم: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ]الكهف: 31[ وكلما دخلوها يتذكرون ان الله خلقها وهو يمدها بأسباب الحياة. أما بالنسبة للإنسان الذي لا يتفكر قد يتأثر عندما يرى جمال الحدائق ولكنها فيما بعد تصبح مكاناً عادياً بالنسبة له, ويتلاشى تقديره لجمالها.كما ان بعض الناس لا يلاحظون النعم أبداً لأنهم لا يتفكرون فيها، فهم يعتبرونها أموراً عادية من المفروض وجودها، ولذلك فإنهم لا يستطيعون استشفاف المتعة من جمالها.