في سياق التقييم الإسرائيلي الجاري منذ أكثر من ستين عاما على إقامة دولة )إسرائيل( بالنظر إلى المؤثرات السلبية في بعدها الاستراتيجي الوجودي عليها ، فإنها أي (إسرائيل) تقدم أولوية الخطر الداخلي الفلسطيني بأشكاله المختلفة عبر مظاهرات محدودة أو انتفاضات شعبية خطيرة أو عصيان مدني أو غيرها ، على قضية الخطر الخارجي المتمثل بالدول العربية المحيطة وما جاورها من بلدان عربية أخرى أو إسلامية.
فدولة مثل (إسرائيل) تقوم على فكرة الأمن المطلق والحساسية الأمنية الفائقة وهي بالتالي لا يمكن أن تقبل بأي حراكات أو قطاعات تخرج عن إرادتها ، وعن أهدافها الماثلة أساسا في إطار حركتها الصهيونية الأم.
من الممكن لـ(إسرائيل) أن تقبل بإقامة سلطة للحكم الذاتي المحدود أو ما كانت تعرضه شبيها بسلطة الحكم الذاتي في ثمانينيات العقد التاسع من القرن العشرين المنصرم ، فيما عُرف في حينه بروابط القرى ، لكنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقبل بقيام وبقاء واستمرار وتطور منظومة قريبة منها جغرافيا ، يسيطر عليها فلسطينيون ، لا يقبلون شروطها وإملاءاتها ، وفي حين تتمتع هذه المنظومة بنوع من التكاملية سياسيا وأمنيا ، ولديها قدر من القوة والاستقلالية كما هو الحال تماما مع قطاع غزة بعد سيطرة حركة المقاومة الإسلامية حماس عليه في أواسط حزيران تموز 2007.
صحيح أن هنالك أطرافا عربية وإسلامية تُشكل خطرا استراتيجيا وربما وجوديا على (إسرائيل) كما هو الحال مع إيران وحزب الله اللبناني والخط الجيواستراتيجي الخطير جدا المتمثل في سوريا ، لكن بطبيعة الأمور القائمة عليها الكيانات والدول أساسا ، والى الطبيعة الخاصة بدولة الاحتلال الإسرائيلي التي تجمع إلى جانب الاحتلال صفة الإحلال ، وما يتعلق بذلك من هاجسية الأمن لديها ، فإن قطاع غزة وما يمثله لأول مرة في التجربة الفلسطينية الحديثة كلها من بؤرة مقاومة فلسطينية داخلية في أرض فلسطين نفسها ، ومن خلال سيطرة سياسية وأمنية شبه متكاملة عليه وبنوع من الاستقلالية والقدرة على الدفاع كما حدث في الحرب الأخيرة على غزة 2008 – 2009، فإنه أي (قطاع غزة) يصبح الأولوية الأولى في نظر (إسرائيل) في سياق التخلص من البنية العسكرية والسياسية والإدارية التي باتت قائمة فيه.
قبل الحرب على غزة ، كان بعض المحللين يذهبون يمنة ويسرة ، ومرة إلى هذه الجهة أو تلك ، في سياق استشراف وتوقع الطرف الذي سيكون محلا للضربة الإسرائيلية القادمة، دون أن تكون غزة ضمن التوقع الأول لأي هجوم إسرائيلي مباغت.
وكاتب هذه السطور كتب مقالا مع نهاية عام 2007 ، بعنوان ( حتمية الهجوم على غزة! ) بالإمكان الرجوع إليه عبر محرك البحث غوغل.
وقد انطلقت باكرا في أساس توقعي للهجوم على غزة، من منطلق ترتيب الأولويات الاستراتيجية الإسرائيلية في تعاملها مع أعدائها الفلسطينيين والعرب ، بالاستناد إلى النظرة العلمية لطبيعة الصهيونية حركة ودولة.
وضمن نظرة ترتيب الأولويات الإسرائيلية في التعامل مع الأعداء والخصوم ، فإن )إسرائيل( تحتاج دوما إلى جملة الترتيبات والتبريرات اللازمة لتحضير هجومها أو عدوانها إقليميا ودوليا ، ومن فترة قريبة فلسطينيا من خلال علائق اتفاقات السلام والتنسيق الأمني الاستراتيجي معها .
والمتابع جيدا لما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة من حراكات ، يذكر تلك الترتيبات والتحضيرات التي سبقت الهجوم على غزة في أواخر 2008 ، ومن بينها تحميل الطرف المصري الراعي للحوار بين فتح وحماس للأخيرة، في حينها ، المسؤولية عن فشل الحوار وعن أي تداعيات مستقبلية خطيرة وقتها ، وما كان هنالك من تسريبات ومعلومات عن مباركة خطوة الهجوم المباغت على غزة من هذه الدولة العربية أو تلك.
الآن ما زالت صورة المشهد هي هي من ناحية الوزن الاستراتيجي لماهية الخطورة وأولويتها بالنسبة لـ(إسرائيل) ؛ فحماس وحكومتها وقطاعها الأمني والعسكري المقاوم ما زال قائما برغم الحرب المدمرة التي استمرت 21 يوما.
وفي المنطقة وفي فلسطين المحتلة يتابع المرء حراكات سياسية ووفودا تذهب وتجيء ، ويتم الحديث عن حل ودولة تقوم خلال سنتين ، جاء هذا على لسان رئيس حكومة السلطة في رام الله الدكتور سلام فياض ، وجاء من جديد على لسان الأوروبيين وكشفته وسائل إعلامية إسرائيلية مؤخرا ( هآرتس13- 9- 2009).
هذا بالإضافة إلى ما تم تسريبه عبر وسائل الإعلام من وجود مقترح مصري جديد للحوار بين فتح وحماس ، يريد ترتيب الأوضاع لانتخابات رئاسية وتشريعية في منتصف العام المقبل ، وذلك بأي ثمن مؤقت ولو كان مكتوبا سياسيا وأمنيا وربما إداريا مع حماس ، حتى تتحقق نتيجة الفوز لحركة فتح حسب توقعات أطراف بعينها
وما أشبه طرح اليوم بالأمس ، وإن اختلفت فيه وسائل وأشكال الخداع ، فبالأمس لما رفضت حماس الوثيقة المصرية التي أراد الراعي المصري الرسمي فرضها كوثيقة فلسطينية للتنفيذ ، وعلى اعتبارها بأنها المشروع الوطني الفلسطيني ، جاءت الحرب بعدها بأيام على غزة في 27- 12- 2008 .
ولكن حماس وقيادتها في غزة، قد أحسنت التصرف تجاه الموقف هذه المرة ، حين رحبت بوثيقة المقترح المصري الجديد للحوار الفلسطيني ، وانكبت على دراستها رغم ما تم تداوله عن بعض بنودها من مثالب ، ونراها تُحسن التصرف ، في محاولتها تجنب العدوان الإسرائيلي القادم قدر الإمكان؛ عبر دبلوماسية حراك واتصال قياداتها مع قيادات المنطقة العربية سواء في الأردن أو السعودية أو غيرهما من الدول العربية في الفترة الأخيرة ، وهي لاشك تحتاج إلى جهد دولي دبلوماسي وسياسي ، خصوصا الصيني والروسي منه ، لتجنب أي عدوان إسرائيلي على القطاع ، عبر الضغط الإقليمي والدولي على (إسرائيل) للجم عدوانها عن الشعب الفلسطيني.
لكن احتمال الهجوم التالي على غزة يبقى قائما ، وهي الهدف الأول على عدوانه، قبل غيرها من أطراف المحور المقاوم والممانع في المنطقة.
...