أي بنيّتي ... اسمحي لي أن أتشرف بمخاطبتك "ببنيتي" لأنك منّي في هذا المقام وأكثر.
أي بنيتي ... وكأني بك تحملين على كاهلك الغضّ هموم الأمة بكاملها، فتلاشت معها هموم الذات مهما عظمت، فما عاد يضيرك ما أصابك من هم ولا وصب ولا نصب، لأنك لو فكرت – ولو لثانية – في ذاتك ما أقدمت على ما أقدمت عليه من التضحية.
لا أظنّك كنت تجهلين الثمن الذي ستدفعينه؛ ففي ذاكرتك أسفارٌ من روايات "أخواتك" الستين قبلك عن معاناتهن في سجون الصهاينة تعرفينها حق المعرفة، فلم يغب عن بالك مشهد "الكيس الأسود" الذي سَيُغطي به الزبانية رأسك عند "الاستقبال"، ولا "حفلات" الشبح المستمر أو الحرمان من النوم لأيام. ولا أخالك غاب عن مخيلتك صورتك وأنت متكورة على نفسك ورأسك بين ركبتيك قابعة خلف باب العزل الانفرادي في زنزانتك.
لأنّك تعرفين كل ذلك وأكثر كنت كبيرة، وأكبر بكثير من ستة وعشرين ربيعاً هي عمرك الزمني؛ بيد أنّ معاناة حياتك القصيرة تحكي تاريخاً طويلا حافلا بالمجد، وتصنع حاضراً ممزوجاً بالمقاومة، لننتظر نحن "القاعدين" عقوداً أملاً بالنصر والتحرير.
تيهي أيتها المجاهدة "الرمز" - وأخيّاتك المجاهدات - خلف القضبان شرفاً، واتركينا "نحن" مع قيودنا نرسف بها ذلاً ومهانة وانتظاراً وخذلاناً!
أي بنيّتي ...
كثيراً ما تساءلتُ عن سر هذه التضحية التي تعيشينها مع أمثالك من شباب خلُصت نفوسهم من حظ نفوسهم، إلا أنّني استطعتُ مع مرور أن أفهم أن وراءها مخزوناً هائلا من من الإيمان بالفكرة الممزوج بقهر المحتل الغاصب، وبرغم ذلك وقفت حائراً أتساءل: أبعد استشهاد سعد، وإبعاد أمجد لمرج الزهور، واعتقال أيمن تستمرين وعائلتك بالعطاء بلا حدود؟ كيف؟!! ومن أين هذه الهمة الأسطورية؟!
يا أخت الشهيد والمبعد والمعتقل! ويابنت الأم القابعة خلف بابها تترحم على الشهيد وتنتظر المعتقل وتتوجس خيفة من المداهمة! يا سليلة بيت النضال والجهاد والمقاومة وكل مفردات العزة والكرامة: أما كفاكِ ما قدمتِ وقدّمت عائلتكِ؟ أما أقعدك مع "القاعدين" ما عانيتِ وبذلت في عقديكِ ما بذلتِ؟! أما هنتِ كما هان "الغثاء" و"الرويبضة"؟! أما انحنيت كما انحنت قامات "رجال" حسبوا أنهم رجال وما هم برجال؟! أما خفتِ من بطش الجلاد وقسوة السجان وعتمة الزنزانة وقهر "الانفرادي"؟! أما اشتقت أن تعيشي حياتك كبقية بنات الدنيا وتستمعي بشبابك؟!
عجباً واللهِ ... واللهِ عجبٌ أمر هذا الشعب العنيد والأرض الولود التي ما عرفت عقماً وما فتئت تنبت نبتاً طيبا "يعجب الزرّاع ويغيظ الكفار".
أي بنيّي ...
اصدقيني القول بالله عليك – وأنت الصادقة الصدوقة: تفهّمت أنّك أعددت العدة لكل ما يمكن أن يجابهك الغاصب المحتل، وأعرف أنّك تأقلمت مع "زنازينه" وسياطه وشبحه وجلاديه ... لكن هل خطر ببالك – ولو للحظة – أن تتخيلي أن يغلق عليك باب زنزانة "فلسطينية" حارسها "فلسطيني" وجلادها "فلسطيني" وسوطها "فلسطيني"؟!!
هل خطر ببالك أن تلطّخ ضفائرُك بكفّ مجرم "فلسطيني"؟! هل خطر ببالك أن يَنزع وشاحك "المقدّس" علجٌ "فلسطيني"؟! هل خطر ببالك أن يَشبح جسدك الغضّ الطاهر سجّانٌ "فلسطيني"؟!
هل وجدت تفسيراً لاعتقالك من سلطات الاحتلال "الصهيوني" بعد أسبوع من الإفراج عنك من "السجن الفلسطيني"؟!
أي بنيّتي ...
أيّ قلب هذا الذي تحمّل هذا البركان الهائل من القهر والإذلال وهو في عقده الثالث؟! أيّ نفس توّاقة لنصر الدنيا وجنّة الآخرة تحملينها بين جنبيك فأعطتك قدرة أسطورية على تحمّل القهر بلغتيه العربية والعبرية؟!
أي بنيّتي ...
أبدع فؤاد الخفش (باحث متخصص في شؤون الأسرى) إذ قال فيكِ: " من عظيم فعال الكرام تنسج الكلمات ومن طيب صنيع المميزين تسطر الحروف ومن صمت العظماء تتفجر المعاني لترسم في النهايه صورة فتاه فلسطينية تزينت خلف حجابها وبيدها قلم سخرته لنصرة الحق واتخذت منه مدفعا تقاوم به المحتل."
أي بنيّتي ...
لا يملك "القاعدون" مثلي إلا الكلمات! بنيتي، بل سيدتي! عذراً لك على عجزنا!
مقالات
بقلم: وائل أبو هلال