قد جاءنا -والحمد لله- هذا الشهر الكريم العظيم الذي تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُصفَّد فيه الشياطين، ويعتق ربُّنا I رقابنا من النار، فأسأل الله U أن يجعله شهرًا مباركًا على الأمة الإسلامية جميعًا، يوحِّد فيه شملها، ويجمع فيه شتاتها، ويرفع فيه راياتها، ويُعلي فيه قدرها، وينصرها فيه على عدوها.. إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
ويتوقع الكثيرون أننا في بداية هذا الشهر الكريم سنتحدث مع القراء في كيفية المحافظة على القيام والصيام وقراءة القرآن.. وهذه الأمور هي -والله- من أجلِّ الأعمال، وأعظم القربات، لكننا كما ذكرت في مقالي السابق "رمضان الأخير" لا يجب أن ننعزل عن أحداث الأمة الجسام مهما كانت ظروفنا وأحوالنا، فليس هناك معنى للانقطاع عن متابعة هموم الأمة في شهر رمضان؛ فالتاريخ لا يتوقف، وأعداء الأمة لا يتوقفون عن الكيد والتدبير، والمجاهدون لايتوقفون عن جهادهم وحركتهم. ومن هنا فإنني وجدتُ أن الحديث عن موضوع غزة الأخير، وهو الصدام بين حماس وجماعة جند الله، لهو من الموضوعات المهمَّة التي لا ينبغي أن تفوت دون التعليق عليها، وشرح أبعادها، ليس لذات الحدث فقط، فإنه قد يكون حدثًا عابرًا، ولكن في الأساس لأنه يوضِّح لنا الفرق بين المناهج الفكرية المختلفة التي تنتشر في أمتنا، ومنها الصالح ومنها الطالح، وطالما قلت: إن أكبر الكوارث وأعظمها أن يختلَّ الفكر، وتضيع الرؤية، فعندها قد يُقاتِل المسلم من أجل أمرٍ هو في الحقيقة معصية، وقد يضحِّي بنفسه من أجل عمل لا ينبغي أصلاً أن يعمله.. وصدق الله U إذ يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
غزة الصامدة الأبية
عبد اللطيف موسى وهو يعلن الإمارة الإسلاميةوأجدني من قلبي ومن كل جوارحي أقول: لكِ الله يا غزة.. تلك المدينة المسلمة الصامدة الأبِيَّة..
وكأنه لم يكن كافيًا أن يحدث الصدام المروِّع مع اليهود بكل طغيانهم وجبروتهم، ولم يكن كافيًا أن تُجابه حماس قوى العالم التي وصمتها بالإرهاب، ولم يكن كافيًا أن تتزعم أمريكا والأوربيون حملة مقاطعة الصامدين في غزة، ولم يكن كافيًا أن تتخلى الدول العربية المجاورة وغير المجاورة عن نصرة المسلمين المحصورين في غزة، ولم يكن كافيًا الطعن من الظهر الذي تقوم به السلطة القديمة المتعاونة صراحةً مع اليهود..
لم يكن كل ذلك كافيًا حتى وجدنا رجلاً "يخرج" على الشرعية القانونية في هذا البلد الذي يموج بالاضطرابات؛ ليعلن قيام إمارة إسلامية جديدة تعتمد على بضع عشرات فقط من الرجال، ومتحديًا للكيان الإسلامي المجاهِد حماس، وموجِّهًا سلاحه إلى الإخوة الأشقاء، وداعيًا إلى شق الصف وزعزعة الاستقرار.
ولله في خلقه شئون!!
ثبات حماس
حركة المقاومة الإسلامية حماسلقد مرت حماس بظروف صعبة للغاية طوال السنوات الأخيرة، وتعرضت لأزمات عديدة كانت الواحدة منها كفيلة بتقويض أركان الكيان بكامله، لولا أن الله U حفظهم وثبتهم، وليس هذا إلا للصدق الذي في قلوبهم، والحميَّة التي في صدورهم، والتوقير الذي في كل أعضائهم للكتاب والسُّنَّة، والاتّباع الحثيث لمنهج الحبيب r. ولقد كتبت قبل ذلك بعدة شهور مقالاً بعنوان "حماس.. وما أدراك ما حماس" عبَّرت فيه عن إعجابي -بل انبهاري- الشديد بهذه الجماعة المؤمنة التي رفعت رأس المسلمين جميعًا، وكانت نقطة مضيئة مشرقة في عالم مليء بالظلام.
جماعة جند أنصار اللهوفي ظل هذه الظروف الصعبة إذا بنا نُفاجَأ بظهور عدة تنظيمات مسلَّحة، تدعو إلى "الخروج" على الحكومة التي أجمع علماء الأمة على مصداقيتها وجهادها وتضحيتها وحسن تاريخها وواقعها، وكان آخر هذه التنظيمات ظهورًا هو تنظيم "جند الله"، الذي ينتمي -كما يقول أصحابه- إلى السلفية الجهادية، ولا أدري أي سلفٍ يتبعون؟! ولا أي جهاد يقصدون؟!
وهل كان من منهج السلف أن يدخلوا في صراعات جانبية مع إخوانهم المسلمين المجاهدين؟ أم هل كان الجهاد وسيلة لشق الصف المسلم؟!
الخوارج وانحرافهم الفكري
إننا رأينا أمثال هذا النوع من التنظيمات في مواطن كثيرة من التاريخ الإسلامي، ولعل أبرزها أولئك الذين خرجوا على رابع الخلفاء الراشدين الإمام الجليل، والعالم التقي، علي بن أبي طالب t.. وهم الذين تنبأ رسول الله r بخروجهم، وأُطلق عليهم في التاريخ لقب "الخوارج"، ولم يمثِّلوا مرحلة تاريخية فقط، بل ظلوا يمثلون انحرافًا فكريًّا رأيناه في أكثر من بقعة من بقاع العالم الإسلامي، وفي أكثر من مرحلة من مراحل مسيرة الأمة. وقد حاربهم الإمام الجليل علي بن أبي طالب t بعد أن دعاهم بالحسنى إلى العودة إلى الصف المسلم، فأبوا وتعنتوا، فكانت المعارك التي بشَّر رسول الله r بأن المقاتلين فيها من الصف المسلم سينالون أجرًا عظيمًا من الله U، وهذا الذي دفع علي بن أبي طالب t أن يقود المسلمين في هذه اللقاءات.
صفات الخوارج
وقد وقفت مع هذه الفرقة التي خرجت على الخليفة المجاهد علي بن أبي طالب، وحلَّلت صفاتها، ونظرت في جذورها وواقعها وطرق تفكيرها وتعاملها مع الأحداث، وخرجت بعِدَّة صفات لها، تجعلنا نتعرف على أشباهها في حياتنا، ومن ثَمَّ نستطيع أن نُسقِط أحكامها على أمثالهم في واقعنا.. فكانت صفاتهم على النحو التالي:
الصفة الأولى: الجهل بالدين..
فعلى الرغم من كونهم يَظهرون للعوام بشكل الملتزمين، بل الدعاة والخطباء، إلا أنهم لا يعرفون من أحكام الدين إلا قليلاً، وبالتالي فهم يأخذون قرارات مبنيَّة على جهلٍ، وقلما تأتي هذه القرارات بخير.
الصفة الثانية: سهولة التكفير..
عبد اللطيف موسى قائد أنصار جند اللهوليس أبلغ من ظهور هذه الصفة فيهم من أنهم كفَّروا عليًّا t ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- وعمرو بن العاص t، وسحبوا بذلك هذا الحكم على كل أتباعهم وجيوشهم من الصحابة والتابعين. وهكذا فقد كفَّروا المجتمع بكامله، وتبعًا لهذا التكفير فقد انسلخوا كُلِّيَّة من مجتمعاتهم، وصاروا جسدًا منبوذًا مرفوضًا من الجميع، كما جرَّهم هذا إلى تطبيق أحكام الكفار على المجتمع المسلم، وفي هذا ما فيه من الخطورة والفساد.
الصفة الثالثة: التساهل في الدماء..
وهذه تابعة لما قبلها.. فما أسهل أن يقيموا الأحكام بالقتل وإزهاق الأرواح، وقد لا يكلفون أنفسهم بجمع الأدلة، ولا إقامة الحجة، ولا التماس الأعذار، ولا سماع آراء المتهمين! إن الأمر عندهم لا يعدو أن يكون طعنة خنجر، أو طلقة رصاص، وكأنها تُطلَق على ما لا روح فيه.
الصفة الرابعة: الغلظة الشديدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
فهم لا ينظرون إلى الآيات الكريمة {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]؛ فمع كون الرسول r مؤيَّدًا بالوحي، ومدعومًا بأقوى الحجج وأعظم البراهين، إلا أنه ما كان له أن يحتفظ بالناس من حوله إلا بلين الجانب ورقة العاطفة. أما هؤلاء فيتعاملون مع الناس بغلظة شديدة، وبعنف ظاهر، وبترفُّع وتكبر بارزين، وهذا يجعل مكانتهم في قلوب الناس واهية، وهذه الغلظة من أبرز صفاتهم مع أقرب الأقربين منهم.