أبدأ باسم خالق الزمان والإنسان، منزل الوحي، مشرف الزمان والإنسان به.
الزمان كالإنسان تماما بحر أسرار. لا أحد غير الله يعرف ما يخفيه الزمان في كنهه والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يدون الزمن ويضع له الخطط ويعلق عليه الآمال.
الزمان والإنسان والوحي...
النقطة التي تجمع بين ثلاثتهم هي كونهم "شهود".
إن الله يُقسم بالزمان وبأجزائه كحين قوله: "وَالْعَصْرِ... وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ... وَالضُّحَى... وَالصُّبْحِ... وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى... فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ..." إن هدف الحلفان في هذه الآيات هو التذكير بأن الزمان شاهد على الإنسان والهدف من هذا التذكير هو أن يستخدم الإنسان الزمان على نحو جيد وصحيح ومثمر. وإذا لم يفعل الإنسان ذلك يكون قد حول نعمة الزمان التي منحت إليه إلى شاهد يشهد ضده وخسر بذلك خسارة مزدوجة: فمن جهة يكون قد فرط بأمانة الوقت التي منحت له ومن جهة ثانية يكون قد حوله إلى شاهد يشهد ضده.
الله الذي جعل الزمان شاهدا على الإنسان جعل الإنسان شاهدا عليه، وكلمة الشهادة هي أبلغ تعبير عن هذا الشهود. فدعوة الإنسان ليكون شاهدا على الله هو شرف بل هو أعظم شرف لأن الشهود على الله هو أعظم شهود وهو شهود على الأعظم. وإن الشهود على الأعظم هو أعظم شرف. إن الله القائم بذاته الأبدي السرمدي المحيي الأبدي لن ينال شيئا من شهادة الإنسان وهو أراد من جعل الإنسان شاهدا على ذاته أن يشرفه وأن يفتح أمام العقل والإرادة التي وهبهما له أفقا لا متناه. أوليس الله "ذِي الْمَعَارِجِ" (أي المراتب والدرجات) وقد منح الله الإنسان الإمكانيات والفرص للارتقاء والصعود على هذه المراتب.
إن الوحي يأتي في مقدمة الإمكانيات التي وهبها الله للإنسان ليرتقي ويرتفع. والوحي كالإنسان والزمان تماما هو أيضا شاهد ولأنه شاهد يقدم نفسه بصفات كالمجيد والكريم والعزيز وهذه الصفات جميعها صيغة "فاعل" (شاهد). لقد أنزل الكلام الإلهي على الإنسان وهو سيحاسب على حمله أو عدم حمله. فالوحي سيشهد على السلوك الذي سيسلكه الإنسان ـ الذي نزل عليه الوحي ـ إزاءه. وما إرسال النبي الكريم ـ الذي كان "قرآنا يمشي على قدميه" ـ "شاهدا" إلا للدلالة على أن الوحي قد أنزل شاهدا.
أجل كما رأينا إن كل من الزمان والإنسان والوحي يشتركون بأنهم شهود. ولكن الفرق بينهم هو أن الزمان والوحي شاهدان على الإنسان في حين أن الإنسان شاهد على الله وهذا ما يجعل الإنسان مستثنى. ولهذا السبب فإن الزمان والوحي هما للإنسان أما الإنسان فهو لله، هذا هو الترتيب الإلهي. وأن يصبح الإنسان معرضا ومحكوما للزمن يخل بهذا الترتيب لأنه في هذه الحالة لا يكون "الزمان للإنسان" بل يكون "الإنسان للزمان" وهذا يخل بالترتيب الإلهي ويعني تدخلا بلائحة الشرفية. ربما يتوارد على الذهن السؤال التالي: "أين يقع مكان الزمان والوحي في تلك المراتب؟". إن شهر رمضان يجيب ضمنا على هذا السؤال. وللإجابة عليه لا بد لنا من التذكير بالآية التالية التي تشرح لنا من أين جاءت قيمة هذا الشهر:
"شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (سورة البقرة الآية 185)
إن هذه الآية تظهر بشكل واضح وصريح السبب الذي جعل رمضان شهرا استثنائيا. ففي هذا الشهر بدأ نزول القرآن الكريم وهذه الحقيقة تؤكد في الآية الأولى من سورة القدر أيضا. إن رمضان هو شهر مولد القرآن وليلة القدر هي يوم مولد القرآن وهي ليلة من ليالي شهر رمضان وهذه الحقيقة تظهر بشكل واضح وصريح عند قراءة ومقابلة الآيتين 185 من سورة البقرة و1 من سورة القدر. وهذا يعني أنه لو لم تكن ليلة القدر التي بدأ فيها نزول القرآن إحدى ليالي رمضان، لم يكن لهذا الشهر أن يحمل تلك القدسية والبركة. فكل القدسية والبركة التي يتمتع بها رمضان تنبع من كونه يحمل بين جنبيه الليلة التي بدأ فيها نزول الوحي.