وقد أبلغ جميعُ الأنبياء الذين أرسلَهم الله لأقوامهم نفسَ التعاليم في الأساس، ودعَوْا أقوامهم لعبادة الله وطاعةِ رُسُلِه. ولم يسأل الرُّسُلُ أقوامَهم أجراً في مُقابِل خَدَماتِهم، فمن أرسلَهم اللهُ لنقل كلماتِه للناس لا يفعلون هذا، فالرُّسل لا يقدِّمون خدماتِهم إلا نتيجةَ حُبِّهم للهِ وخَوْفِهم منه. ويُجابِه الرُّسُلُ، أثناء توصيل رسالاتهم، العديدَ مِن الصِّعابِ حين يَذُمُّهم أقوامُهم ويُعامِلُونَهم بِقَسْوَة. وزيادةً على هذا فإنَّ بعضَ الناس تآمروا على قتْلِ أنبيائهم الذين أُرسِلُوا إليهم، بل وتجرَّأ بعضُهُم فقَتَلُوهم فِعلاً. ولكنْ بِما أنَّ الأنبياء يخافون اللهَ وحدَه ولا يخافون أحداً سواه، فإنه لم تثبطهم ولم تُخِفْهم أيَّةُ مُعوِّقات، ولم يَنْسَ الرُّسُل أبداً أنَّ الله سوف يُكافِئُهم بِسَخاءٍ، سواءٌ في الحياة الدنيا أو في الحياة الأخرى.
نبيُّ اللهِ إبراهيمُ عليه السلام
سوف نُناقِشُ في هذا القسم بتوسُّعٍ العديدَ من مزايا بعضِ الرُّسُل الذين لَفَتَ اللهُ انتباهَنا إليهم في القرآن الكريم .
كان إبراهيمُ عليه السلام أَحَدَ هؤلاء الرُّسُل. وحين كان إبراهيمُ صغيراً، ولا يُوجد أحدٌ مِن حَولِه يُذكِّرُه بِوُجود الله، قام بِفَحْصِ السموات، فقادَهُ هذا لِيَفْهمَ أنَّ اللهَ يَخلُقُ كلَّ شيءٍ، ويذكُر لنا القرآنُ هذا كما يلي:
(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (سورة الأنعام: 75 – 79)
ودعا إبراهيمُ قومَه ألاَّ يعبدوا إلا الله.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (سورة الشعراء: 69 - 82 )
وحاوَلَ أعداءُ إبراهيمَ قَتْلَهُ حين دعاهُم للإيمان بالله، فأَشعلوا ناراً عَظِيمَةً وألقَوهُ فيها، ولكنَّ اللهَ حمَاه ونجَّاه منها .ويُخبرُنا القرآنُ بهذا كما يلي:
(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (سورة العنكبوت: 24 )
(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (سورة الأنبياء: 69)
وبِما أنَّ اللهَ يَخلُقُ ويَتَحكَّمُ في كُلِّ شيء، فقد منعت إرادتُه النارَ مِن حَرْقِ إبراهيمَ، وهي مُعجِزَةٌ مِنَ اللهِ، ودلِيلٌ على قُدْرَتِه التي لا حدود لها. ولا يحدُث شيءٌ على وجه الأرض إلا بإرادةِ الله، إذ لا يُمكِنُ لِشيْءٍ أن يحدُثَ إلا بإرادته وتحت سيطرتِه. وإذا لَمْ يُرِد الله، فلا يُمكِنُ لِشخصٍ أن يُؤذِيَ أو يَقتُلَ شخصاً آخر، وذلك مِصداقًا لِقوله تعالى:
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (سورة آل عمران: 145)
ولَمْ يَمُتْ إبراهيمُ رغم أنَّه أُلقِيَ في النار، لأَنَّ أجَلَ موته الذي حدَّده الله مُسبَقاً لم يكن قد حان بعدُ، فأنْجَاه اللهُ من الناس بإِذْنِه.
ويُخبِرُنا الله في إحدى آياتِ القرآنِ الكريم أنَّ إبراهيمَ كان رجلاً ذا شخصيَّةٍ نموذجية مثالية فيقول:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (سورة هود: 75)
ويُحِبُّ اللهُ الناسَ الذين يخلصون وُدَّهم وقلوبَهم لَه، كما تُظهِر الآيةُ، وعدَمُ التمرُّد وامتلاءُ صَدْرِ الفَرْدِ بالخيرِ والخُضوعِ لأوامر الله، صفاتٌ يُحبُّها الله.
نبيُّ الله موسى عليه السلام
يشير اللهُ كثيراً إلى نبيِّه موسى عليه السلام في القرآن الكريم. وقد أنزل اللهُ التوراةَ على موسى، ولكنَّ التوراةَ التي بِيَد اليهود اليوم، والعَهْدِ القديمِ الذي بِيَد المَسِيحيِّينَ فَقَدَا مِصداقيَّتَهُما الأصلِيَّة، فقد أُدخِلَت عليهما كلماتُ البَشَر وإضافاتُهم. ولكنَّ يَهودِيِّي العَصرِ الحالِيِّ ومَسِيحِيِّيهِ يَقرَأُون تلك الكتبَ المُحرَّفة مُفتَرِضِينَ أنَّها نُسَخُ مِن الكتاب الأصليِّ الذي أنزلَه الله .وقد حاد اليهودُ عن الطريق المستقيم؛ لأنَّ الكِتاب الذي يؤمنون بِه لم يَعُد الكتابَ الذي أَوحَى به اللهُ إلى موسى عليه السلام.
ونَعرِف كلَّ شيء عن حياة موسى الفاضلة وشخصيتِه من القرآن الكريم. وحسبما يُخبرنا القرآن، فإنَّ مُلوكَ مِصْرَ القديمةِ كان يُسَمَّى الواحِدُ منهم فِرعون. وكان أغلبيةُ الفراعِنَة أشخاصاً مغرورِين جدًّا، ولم يكونوا يُؤمِنون بالله، بل يظنُّون الألوهِيةَ في أنفسِهم.وقد أرسل اللهُ موسى لواحدٍ مِن أشدِّ هؤلاءِ الحكام قَسوَةً.
وتأتي قَضِيةُ "القَدَر" أحدَ النِّقاطِ المُهمَّة التي نرغبُ تَأمُّلَها أثناء قراءة الآيات المُتحدِّثة عن حياة موسى .فقد ساقَهُ قدرُه إلى قصرِ فرعون.
وكان فرعونُ قد أمر جُنودَه أن يَقتُلوا كلَّ وَلِيدٍ ذَكَرٍ يُولَد على وَجْهِ الأرض التي يحكُمُها، وذلك في الوقت الذي وُلِدَ فيه موسى. وكان موسى عليه السلامُ واحداً مِن هؤلاءِ الأطفالِ المعرَّضِين لِلخَطر. وأمَرَ اللهُ أمَّ موسى أن تتركَ وَليدها في صُندوقٍ (تابوت) وتضعَه في النهر، وأكَّد لها الله عودتَه إليها في النهاية، وأنَّه سيكونُ رَسُولاً لله. وَضَعَت الأمُّ موسى في التابوت وتركته في الماء، وطفا التابوتُ على الماء بصورةٍ عشوائية، ثُمَّ رسا بعد فترة على الشاطئ عند قصرِ فرعون. وهكذا رعا فرعونُ الشخصَ الذي سوف يبلِّغُه رسالةَ الله ويعارضُ وِجْهاتِ نظرِهِ المشوشة، دون أن يدرك فرعونُ ذلك. وعَلِم الله، الذي يُحِيطُ بكلِّ شيء عِلماً أنَّ فرعونَ سوف يجدُ موسى عليه السلام، وسوف يُربِّيه في قصره.
وقد علِمَ الله حين وُلِد موسى أنَّه سوف يُترَك في النَّهر، وأنَّ فِرعونَ سوفَ يعثُر عليه، وأنَّ موسى سوف يُصبِح نَبِيًّا في النهاية. وبهذه الطريقة حدَّد اللهُ مُسبَقاً قَدَر موسى، وأخْبَرَ به أمَّه.
ويجب أن نُلفِت النظرَ هُنا إلى أنَّ كلَّ تفاصيل حياةِ موسى عليه السلام حدَثَت وفقاً لِقَدَرِه الذي حدَّدَه الله له مُسبَقاً.
وتَرَك موسى مِصْرَ حين أصبح رَجُلاً شابًّا، وبعد مرورِ بعضٍ من الوقتِ بَعثَ اللهُ موسى نبيًّا ورسولاً، وأيَّدَه بِأخيه هارونَ نبيًّا عليهما سلام الله.
وذهب موسى وهارونُ إلى فرعون، وبلَّغاه رسالة الله. وكانت تلك مُهِمَّةً صعبةً إذْ دعيا - دون تردد- حاكِمًا قاسيًا إلى الإيمان بالله وعبادتِه، ويُخبِرُنا القرآن بدعوة موسى لِفرعون كما يلي:
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (سورة الأعراف: 103-105)
وكان فرعون رجلاً مغروراً فَخُوراً. وتمرَّد على الله ظنًّا منه أنَّه يُسَيْطِر على كلِّ شيء. والحقيقةُ أنَّ كلَّ ما كان يملكه فرعونُ كان مِنْحَةً مِنَ الله، بما في ذلك قوته والأرض التي يملكها، ولكنْ نَظَراً لأنَّ فرعون لم يكنْ حَكِيماً فإنَّه لم يفهم هذا الأمر.
وعارَضَ فِرعونُ موسى، ولم يؤْمِن بالله، وكان كما ذكرنا مِن قبلُ رجُلاً شديدَ القسوةِ، واستعبَدَ بَنِي إسرائِيلَ .وحين أصبح واضحاً أنَّ فرعونَ ينوِي القضاءَ على موسى وكُلِّ المؤمنين، هَرَب هؤلاء مِن مِصر بِقِيادة موسى. وحُوصِر موسى عليه السلام وبنو إسرائيل معه بين البحرِ مِن جِهةٍ وفرعونَ وجنودِه الذين كانوا يتبعونهمأخرى. ولكنَّ موسى، حتى في هذا الموقف اليائس، لم ييأس أبداً، ولم يفقد ثِقَتَه بِالله. وفرَقَ اللهُ البحرَ قِسمَين بمعجزةٍ عظيمةٍ مِن عنده، وشقَّ طريقاً في البحر لبني إسرائيل. وكانت هذه إحدى المعجزات العظيمة التي أعطاها اللهُ لِموسى. وما إن وصل بنو إسرائيل إلى الشاطئ الثاني، فإنَّ البحرَ عاد إلى طبيعته، مُغرِقاً فرعونَ وجميعَ جُنُودِه.
ويخبرنا الله بهذه الحادثةِ المُعجِزَةِ في القرآن كما يلي:
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ) (سورة: الأنفال54)
.