كلّ هذه التصوّرات سواء تحققت في الدنيا أم لم تتحقق، فالمهمّ عند المؤمن أن تكون وسائل للتقرب إلى الله وهي تشويق المؤمن للاجتهاد والحرص على الفوز بالجنّة.
إنّ المؤمن الملتزم بالأخلاق القرآنية لا يحسد ولا يغضب إذا ما رأى غيره أكثر منه مالا أو جاها، ولايحزن إن لم يكن صاحب منزل فاخر لأنّ الحياة الدّنيا ليست غاية المؤمن بل غايته الفوز بالجمال الأبدي في الآخرة، وفي هذا الخصوص يقول الله تعالى:
"يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَان وَجَنِّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ" ( التوبة، 21 ).أمّا الذين هم بعيدون عن الأخلاق القرآنية فيغضون الطرف عن نعم الآخرة ويتكالبون على ملذّات الدنيا، فهدفهم الشهرة وأن يكونوا أصحاب مكانة مرموقة وأن تتسع إمكانياتهم المادّية ليعيشوا حياة رغدة. هؤلاء همّهم الوحيد الجري وراء الحياة الدنيا الفانية، فيزدادون عليها إقبالا ويكبر عندهم الحسد والحزن والحرص على الدنيا كلّما رأوا الخير عند الآخرين. مثلا، إن لم يكونوا أصحاب منزل فاخر يجلب الناظرين يصابون بالإحباط ويشغلون أذهانهم بالبحث عن الإجابة عن أسئلة من نوع "لماذا أنا لست غنيا؟"، أو "لماذا لا أملك مثل هذا المنزل الفاخر؟". وباختصار نعم الدنيا عند هؤلاء الناس مصدر للقلق لأنّ سعادتهم لا تتحقق إلاّ إذا حصلوا على تلك النعم.
|
أمّا الذين يعيشون في كنف الأخلاق القرآنية فيعرفون كيف يتمتّعون بنعم الدّنيا سواء أكانوا هم أصحابها أم لم يكونوا. فمثلا، قد يمتحن المؤمن فلا يعرف أجواء الأغنياء ولا العيش في محيطهم، فيعرف المؤمن ساعتها أن وراء ذلك حكمة إلهية لأنّه ليس من الضروري أن يعيش المؤمن في الأماكن الغنية حتى يكتشف جمال مخلوقات الله لأن المؤمن بفراسته وتفتح بصيرته يتمتّع بمخلوقات الله في كلّ مكان و زمان، فمنظر النجوم في كبد السماء روعة، وجمال منظر الزهور ورائحتها الطيّبة جمال لا نظير له، وأمثلة يومية كثيرة يمكن لأي شخص ملاحظتها فتبعث السعادة والطمأنينة في نفس المؤمن وترفع إيمانه.
كما سبق أن ذكرنا فإنّ اشتياق المؤمن لجنة الخلد وملك لا يبلى يجعله يحوّل كلّ مكان في الأرض إلى جنّة تسكن لا محالة خيال كلّ إنسان وهو مكان يفلت عن التصورات، مكان فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وجمال لم يخطر على بال أحد. لكن المسلم الصادق يبذل ما بوسعه ليجعل مكان عيشه على غرار النبي سليمان الذي حوّل قصره إلى تحفة فنّيّة من الجمال تمتعا بنعمة الغنى التى وهبها الله له. وقد أورد الله في القرآن الكريم قصّة سليمان عليه السلام فقال:
"فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رِبِّي..." ( ص. 32 ). لقد وهب الله سليمان ملكا ومقاما عظيمين، ورغم ذلك فقد اختار الله وسخّر ملكه كلّه للدّعوة إلى الله، لذلك مدحه الله في القرآن الكريم وأمر المؤمنين أن يتّخذوا النبي سليمان وغيره من الأنبياء والمرسلين قدوة فينفقوا ما رزقهم الله من نعم في سبيل الله والفوز بعفوه ومغفرته.
موقف المؤمن حيال الأحداث التي تبدو سلبية
قد يتعرض الإنسان خلال اليوم إلى مصاعب مختلفة، لكن المؤمنين يسلمون أمرهم إلى الله مهما واجهوا من مصاعب، وهم يتوكّلون على الله ويعتبرون ان ذلك امتحان يمتحن الله به المؤمن في الحياة الدنيا. إنّها حقيقة لا يجب أن تغيب عنّا أبدا، وإذا ما قابلتنا صعوبات في أعمالنا أو أنّها لا تسير كما خططنا لها فلا ننسى أنه ابتلاء يختبر به الله سلوكنا.
ومن الآيات التي تفيد بأن جميع الأحداث التي يعيشها الإنسان هي قدر الله ومشيئته قوله تعالى:
"قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّل المُؤْمِنُونَ" ( التوبة، 51). إنّ كلّ ما يعيشه الإنسان في حياته هو بعلم من الله وقدره، ولا شك وراءها خير ما. هكذا يرى المؤمن الصادق الحياة عموما ( للمزيد من المعلومات أنظر كتاب هارون يحيى: توسم الخير في كلّ شيء).
وكمثال على ذلك أن يفقد الإنسان أشياء أحبها كثيرا، هذا الحادث في ظاهره سيء، ولكنه في باطنه يحمل حكما كبيرة لأنه يفتح بصر المؤمن عن أخطائه وهو وسيلة ليراجع المؤمن نفسه وينتبه أكثر في المستقبل.
كما أنّ مثل هذا الحادث يذكّر المؤمن أن كلّ شيء لله تعالى، وأنّ الإنسان لا يملك شيئا في الحياة الدنيا، والعبرة من هذا الحادث تنسحب على كلّ الحوادث اليومية مهما كان حجمها وأهمّيتها، كأن يقوم أحدهم نتيجة إهمال أو قلّة انتباه بدفع أموال في غير محلّها، أو أن يقضّي ساعات أمام الحاسوب لإعداد واجباته المدرسية فينقطع الكهرباء فجأة فينمحي كلّ ما كتبته، أو أن يجتهد الطالب كثيرا فيصاب بالمرض يوم الامتحان فيخسر فرصة الدخول إلى الجامعة، أو تتعطل أعماله نتيجة البيروقراطية الزائدة أو نتيجة نقص في الوثائق فيقضي الأيام في الذهاب والإياب وانتظار دوره، أو أن تضيّع موعد الطائرة أو الحافلة للذهاب إلى مكان تريد الوصول إليه على عجل... كلّ إنسان يمكنه أن يعيش مثل هذه الحوادث السلبية. لكن بالنسبة للمؤمن الصادق ينطوى كلّ حادث من هذه الحوادث على خير كثير، لأن المؤمن يفكر أولا في أنّ الله يمتحن سلوكه و صبره.
والمؤمن الذي يفكر في الموت والحساب لا يشغل نفسه ولا يضيع وقته في الحزن لمثل هذه الأحداث لأنّه يعلم أن كلّ حادث وراءه خير بإذن الله تعالى، لذلك تراه يتجنب الشكوى بعد كلّ حادث بل يدعو الله أن يعينه على قضاء حاجاته ويسهّل عليه أعماله. وكلّما تيسر له عمل وقضيت له حاجة تيقن أنّ الله استجاب لدعائه فيحمده و يشكره على ذلك. وبالتالي فالذي يفكر بهذا الأسلوب لا ييأس ولا يحزن و لا يخاف ولا يفقد الأمل أبدا لأنّ مثل هذه الأحداث شيء طبيعي في حياة كل فرد.
تخيل أن إنسانا على وشك إتمام الأمر الذي خطط له، وفجأة يتعرّض إلى مشكل يفسد عليه كل ما خطط، هذا الإنسان سيغضب ويحزن كثيرا ويعيش لحظات عصيبة، غير أن الإنسان الذي يفكر في أن وراء ذلك خيرا سوف يسعى إلى استخلاص العبرة من هذا الحادث وسيخلص إلى نتيجة مفادها أنه عليه اتخاذ الاحتياطات الضرورية ويشكر الله بأنه يمكن أن يكون قد منع أضرارا أكبر إذا أتمّ أعماله بهذا الشكل.
إذا أضاع المؤمن موعد انطلاق الحافلة التي ستقلّه إلى مكان يقصده يقول في نفسه "لعلّ بتأخّري و عدم ركوبي الحافلة أكون قد نجوت من حادث سيء".
هذه مجرد لأمثلة فقط، وتوجد حكم أخرى كثيرة قد لا نكتشفها لحظة وقوع الحادث. مثل هذه الحوادث قد تكثر في حياة الإنسان لكن المهم أن الفائز هو الشخص الذي يبحث عن الخير وراء تلك الحوادث لأنّ الله يعلم الإنسان في آياته بقوله تعالى:
"وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" ( البقرة، 216 ). هكذا يعلّمنا الله أن الشيء الذي نراه شرّا يمكن أن يكون خيرا، والشيء الذي يتراءى لنا خيرا يمكن أن يكون شرّا من حيث لا ندري. لكن الله يعلم ذلك، و ما على الإنسان إلاّ أن يسلّم أمره لله الرحمن الرحيم.
الإنسان يمكنه أن يخسر كلّ شيء في لحظة واحدة كأن يحترق منزله أو تحل به أزمة اقتصادية يخسر فيها جميع أمواله أو أيّ حادث يخسر فيه ما أحبّ من الأشياء. مثل هذه الحوادث الكبيرة يمكن أن يمتحن بها الإنسان في الدنيا، وفي هذا الخصوص يقول الله تعالى:
"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ" ( البقرة، 155 ). هكذا يختبر الله الإنسان بمثل هذه الحوادث وبشره بالخير و الثواب إذا ما صبر وثابر. والصبر المقصود في هذه الآية ليس صبر المغلوب عن أمره المجبرعلى قبول الحادث بل صبر المتوكل المسلّم أمره لله منذ لحظة تلقيه الخبر أو معايشته للحادث، فيحافظ على رصانته ولا ينسى أبدا أنّ كلّ شيء مقدّر بحساب.
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (هود:56)
|
قد يخسر الإنسان يوما أشياء أهمّ وأعظم كأن يفقد عمله الذي يعيش منه ، إنّه حدث جلل بالنسبة للإنسان الذي يؤمن بأنّ مستقبله وحياته مرتبطان بذلك العمل لأنّه تربّي على أن يكون هدفه الوحيد في الحياة الحصول على عمل جيّد يعلو به السلّم الاجتماعي، لذلك فإنّ فقدانه عمله يسبب له الإحباط و اليأس، وتنقلب حياته رأسا على عقب. أمّا المؤمن فيعلم أن الرّازق هو الله تعالى، وما العمل إلاّ وسيلة يحصل بها الإنسان على النعم التي خلقها الله. لذلك يواجه المؤمنون خبر انفصالهم عن العمل بكلّ صبر وثبات وتعقل وبالدعاء والتذرع لله، ولا ينسون أبدا أن المعطى هو الله وهو يرزق من يشاء بغير حساب.
إنّ الإنسان الذي يلتزم بالأخلاق القرآنية يتحكّم في إعصابه ويتّزن في تصرّفاته أمام خبر انفصاله عن العمل أو فشله في إتمام دراسته في المدرسة التي يحبّها، ولا يشغل عقله إلاّ بالاحتمالات التالية
- ألا يكون فقداني لأموالي وأملاكي أو أشيائي نتيجة تقصيري في شكر الله؟
- ألا يكون السبب بخلي أو جحودي بالنعم التي أنعمها الله بها عليّ؟
- ألا يكون ولعي بالجمع قد أنساني الله والآخرة؟
- ألا يكون قد أصابني الكبْر والغرور وابتعادي عن