والدي الحبيب،
سلام إليك وعليك، بقدر اشتياقيوتحرّقي للقياك، وما في القلب لك من وجد وشوق!
أحبّ أن أخبرك بداية أننانحسن بالله الظنّ، وأننا نراكم بإذن الله في جنان الخلد تتنعّمون، على الأرائكتنظرون، ونظنّ أن الله سبحانه أكرمكم بكرامة الشهادة في سبيل الله، وأجزل لكمالمثوبة في الدنيا والآخرة بإذنه، ولكننا نشتاق إليكم ولذلك نبكيكم!
تنقصنانظراتكم، وتعوزنا ضحكاتكم، نفتقد ابتساماتكم، ونشتاق إلى جلساتكم، وتحنّ نفوسنا إلىجمعاتكم، لا سيّما في مثل هذا اليوم..
الله وحده يعلم كم افتقدناكم، وكمبكيناكم.. لكننا من أجلكم ومن أجل رسالتكم، وقبل ذلك رغبة فيما أعدّ الله للصابرين،تجلّدنا ما استطعنا، وتحمّلنا فوق ما يمكننا، لكننا يا أبي بشر من لحم ودم.. لذلكيا أبي نبكيكم!
لطالما تمنّيت لك الشهادة في سبيل الله، ولم أكن أرضى لك إلا أنتموت شهيدًا، وما كان لمثلك إلا أن يموت هذه الميتة الشريفة، لكنه كان رحيلًامبكّرًا وأليمًا.. وهذا ما يبكيني!
كما أنني كنت أفرح بإخوتي الصغار،ولطالما فرحت بهم، استبشرت بميلاد كل منهم، وأذكر لحظات خروج كل منهم إلى الدنياكما لو أنها أمامي، وقد كنت أحلم فيما أحلم أن يكون لك من الذرّية ما ينافس عائلةكاملة، وقد أنعم الله عليك وآتاك، وأكرمهم بما هو أفضل من ذلك .. لكننا –بضعفناوقصور تفكيرنا- كنّا نحبّ أن يظلّوا بيننا..
لذلك يا أبي نبكيكم!
لقدأسعدني أن ختم الله لك وللوالدة وللخالات بالشهادة، وأكرمكم بهذه الكرامة بعد طولجهاد وبذل، وأحمل عن كل منكم ذكريات تصلح لي زادًا حتى ألقاكم، لكن إخوتي الصغار ياأبي لم أسعد برؤيتهم كما كنت أتمنّى.. والخيرة فيما اختاره الله .. لكننيأبكيكم!
في رمضان يا والدي .. كنّا نفطر سوية في بيتكم العامر، تعوّدنا علىذلك يا أبي، وكان صعبًا أن نفطر وحدنا، لكننا آثرنا بعد رحيلكم أن نفطر سوية أيضًاوبما تبقى منّا في بيوت بعضنا بالتناوب.. وشعرنا أن الله مبارك فينا، وأننا بإذنالله كثرة .. لكننا مجرّد حفنة منكم.. فلذلك نبكيكم!
ولدك بلال يا أبي.. إنه يشبهك كثيرًا..
إنني أذكر إذ قلت لك يومًا: لن تجد أخًا مثل بلال لإخوتهأبدًا! فتبسّمتَ تبسّم الرضا..
لقد كان عند ثقتك يا والدي، إنه يحبّ لنا ما يحبّلنفسه وأكثر.. ويؤثرنا على نفسه وأكثر، ويفدينا بروحه وأكثر!
إنه باختصار –وعلىقرب السنّ- والدنا بعدك، لكننا لا نرى لك مثيلًا ولا عنك تعويضًا أنت وسائر الأحبابولذلك نبكيكم!
لكن حسبي أنه يشبهك يا أبي وقد عزّ أشباهك، ولذلك أسمّيه الشيخبلال، تيمنًا بك، ودعاء لله بأن يسير على طريقك.. لكنه نفسه محتاج إليك .. فلذلكأبكي وسأظلّ أبكيكم!
محمّد يا والدي كبر وشبّ، وهو قوي مدبّر.. هو يدناورجلنا يا أبي.. ورجل المهمات الصعبة فينا..
رزقنا الله منه نزارًا بعداستشهادك، وفرحنا بهذا الوافد الوسيم الجسيم، لكننا كنا نحبّ أن تشاركونا فرحته.. ولذلك نبكيكم!
حملت زوجتي يا والدي، وكان المفاجأة أن في بطنها توأمًا! فبكيتكثيرًا، لأنني كنت أعلم أنك ستسرّ بذلك كثيرًا.. شعرت بأن الله يعوّضنا وقرّت بذلكأعيننا، لكننا نفتقد مشاركتكم ولذلك نبكيكم..
قالت الطبيبة إن في بطنها بنتين،فرجوت أن يكونا في طفولتهما كحليمة وريم، وفي صباهما كآية ومريم، وفي شبابهما كأمعبد الرحمن وأم أسامة، وفي ختامهما كأمي وأم علاء! ونرجو من الله أن يبارك فينا،ولكننا سنظلّ نبكيكم!
ابنتك ولاء يا أبي، صابرة ثابتة.. كما ربّيتهاتمامًا..
لقد فتحت لها باب الثلاجة على ستة عشر، هم أحبّ الناس إليها وأقربهممنها، فما قالت كلمة لا ترضي الله .. ولا ترضيك..
إنني إذا أردتُّ مدحها، أوسألني أحد عنها، قلت: هي ابنة أبي وأمّي..
إنها تشبه أمّي كثيرًا يا أبي، وفيذلك لنا عزاء.. لكننا إذا رأيناها افتقدنا أمّنا! وهذا ما يجعلنا نبكيهاونبكيكم!
جدّتي أم زياد صابرة كما عهدتها يا والدي، وهي التي قدّمت منأولادها أكثر من عشرين، وأهلك يا أبي أهلنا كما كانوا على عهدك، وأكثربعدك.
إننا سعداء بهم يا أبي، لكنّ رحيلكم –ولستم قلة كيفًا وكمًا- قصم ظهورناوظهورهم، لذلك يبكونكم، ونحن معهم نبكيكم..
اعتكفنا العشر الأواخر فيالخلفاء، كان الاعتكاف حزينًا يتيمًا، لم يغادر شباب الخلفاء سنّتك فصلّوا كلّ ليلةعشرة أجزاء في عشر ركعات، وختموا في العشر الأواخر ثلاث ختمات، لكننا افتقدناك وكادقلبي يقف إذ دخلت قائمة الشهداء المدعوّ لهم في كل وتر! وزادني حزنًا أنني لم أجدغسان ولا عبد القادر حولي وعزّ عليّ ألا يكون لي إخوة صغار، فبكيتكم كثيرًا .. وطالما سنبكيكم!
أخوك إسماعيل هنية..
إنه أخوك فعلًا يا أبي، وقد كانكما أخبرتني ذات ليلة إذ قلت لي:
إن نفس "أبو العبد" فينا كنفس الشيخ أحمدياسين!
إنه يحبّ الشهداء يا أبي وذوي الشهداء، ويتبع سنّة حبيبنا محمّد عليهالسلام التي كنت تنشرها، وتصدح في دروسك بقوله صلى الله عليه وسلّم: "إني أرحمهما.. قتل أخوهما معي"!
لقد كان عمّنا يا أبي، ولولا أننا لا نرى لك بديلًا لكانأبانا، وزارنا يا والدي مرارًا، واستحلفنا بالله إن احتجنا شيئًا أن نعتبره أقربالناس، وقد كان كذلك يا أبي، وقد سعدت بثقتك، وفرحت بفراستك.
إنه يحترمنا إذاكلّمنا، ويكرمنا إذا قابلنا، ويعاملنا أفضل مما لو كنت حيًا، وقد أعجبنا ذلك منهكثيرًا، واطمأنّت إلى ذلك قلوبنا لأن قائدًا يحمل كلّ هذا الوفاء هو أهل لتوفيقالله عزّ وجلّ!
قلة يا والدي يتحلّون بالوفاء في هذا العالم، وأقلّ منهم يحملونما يحمله أبو العبد منه!
كم أسعدنا كرمه، وأقرّ أعيننا وفاؤه، لكننا يا والديحين نرى ذلك منه نتذكّر طيب أخلاقك، وعلوّ سماتك، فتثور لواعج الشوق لدينا،فنبكيكم!
أخوك فتحي حمّاد يا أبي، إنه أيضًا أخوك..
وقد بكاك ونعاك،وأحسن رثاءك إذ رثاك..
إنه كثيرًا ما يذكرك، وطالما افتخر بك، وقال: إنه –يعنيكيا أبي- أول شيخ لي في الدعوة، وأول مسئول في التنظيم..
اتّصلت به بعد تولّيهالوزارة ثلاث مرّات، فقال في كل مرة: تعال الآن!
وكان في إحداها متعبًا وفي أخرىمشغولًا، فلم يعتذر وقد كان بوسعه الاعتذار، وجلس إليّ ذات مرة وقد غادر اجتماعًا،فبقي معي، واحتفى بي وأكرمني، ولم يعد إلى اجتماعه حتى استأذنت، ففرحت به وسعدت،وفرحت له ثانية إذ أكرمه الله بمولودين ذكرين سمى أحدهما باسمك، والآخر باسم قرينكالشهيد القائد سعيد صيام.
لكننا يا والدي كثيرا ما رأيناك معه، وإذا رأيناهتذكّرناك.. فمن أجل ذلك نبكيكم!
أخوك أبو الناجي الخضري يا أبي..
إنهأيضًا أخوك بحقّ..
لا يكلّمنا إلا ودموعه في عينيه، وإنه يخجلنا بتواضعه وبالغكرمه، وقد كانت المؤسسة التي جمعتك به –ولعلّها بعض ما يجمعك به- مؤسسة كريمة ووفيةأيما وفاء.
إن إخوانك في "الجامعة الإسلامية" –وعلى رأسهم أخوك أبو الناجي- كانوا نموذج أخلاق، وقد احتفوا بنا يا والدي، وأكرمونا بعدك، وأخلفوني مكانك، ثمّلم يفوّتوا فرصة لتكريمك والإشادة بك.
وقد أطلقت كلّيتك يا والدي مؤتمرًا علميًايحمل اسمك، يرأسه أخوك الدكتور نسيم ياسين، فبوركت الهمم.
لقد أسعدني ذلك ياوالدي وواساني، لكنني كنت أحبّ أن أكون شريكك لا وريثك! لذلك بكيتك إذ دخلت
مكتبك،وطالما سأبكيك!
الرجل الأبيض الخلوق الذي عرّفتني إليه في المكتبة يا أبي،وجلس إليك خمس ساعات متواصلات.
كنتَ أخبرتَني أنه صاحب خلق وذوق، لكنني انبهرتبالواقع إذ عايشته، وقد علّمتني يا أبي أنه "ليس الخبر كالعيان".
إنه من أوفىإخوانك إليك، وأحسنهم معاملة لأهلك..
يعاملنا بما لا يعامل به كبار القوم،وأصحاب المراتب والرتب، ويخجلنا إذ نقول له: يا عمّ، فلا يقول إلا: يا أخي!
إننييا أبي إذ أجالسه أتخيّل كم من الكرام فاتني أن تعرّفني بهم، وكم من أصحاب المعادنالثمينة مثل هذا الكريم قصّر العمر دون أن أتعرف بهم، لذلك يا أبي لا أنفكّأبكيكم!
لن نفتح اليوم عزاءً لأنك علمتنا أنه بدعة محرّمة، وسنذهب نصلّي العيدنفرح مع المسلمين، لكنني يحزنني ألا تكون خطيبنا اليوم كما تعوّدنا.. ويفطر قلبيأنني لن أبدأ جولة العيد ببيت أهلي .. لذلك يا أبي لا تلمني إن بكيتكم وبقيت الدهرأبكيكم!
إنني يا أبي لو انطلقت أحدّثك عن أسباب بكائنا إياكم، لا سيّماوالتكبيرات تصدح صباح هذا العيد، لن أنتهي.. لكن هذا بعض ما يحضرني وتخنقني عبراته،ولا أعلم إن كان سيعجبك هذا منّي أم لا.. لكنني لا أقول لك إلا كما كتبت لك ذاتمرّة في حياتك:
يــا والدي إن لأعــلم أنــه ***** قد لا تســرّ بشـعري الدفـّاقِ
فاغفر –رعاك الله- كم من شاعر ***** رفضالسكوت بثورة الأشواقِ
بقلم: براء نزار ريان