أولئك الذين يسمعون هذا للمرة الأولى يتصرفون بهذه الطريقة: "أنا أمسك بيدي وأرى بعيني لذلك فهي موجودة". ولكن على الإنسان أن يتذكر أيضاَ أنه يرى في حلمه ويمسك بيديه، بل ويمارس كل ما يمارسه في الحقيقة، يتمتع، يخاف، يتألم ويستمتع، ثم يستيقظ ليدرك أن كل ما عاشه كان مجرد حلم. هذه بالضبط هي حقيقة الحياة التي نعيشها. في يوم من الأيام سينهض الإنسان من الحلم ويواجه الحياة الحقيقية. |
فعليك ألا تتجاهل أن ماتراه وتسمعه وتلمسه وتتذوقه، باختصار: ''الأشياء'' التي تعرفها في العالم المادي، ما هي إلا خيالات تتراءى لك · إذا كان الشيء الذي نعرفه في العالم المادي يتكون من مدركات وحسب تتراءى لنا فماذا عن الدماغ؟ أليس هو أيضاً مجموعة من الجزيئات والذرات؟
إنه مثل أي شيء نعتبره ''مادة''، فأدمغتنا هي مدارك أيضاً···لا استثناء، فهي في النهاية قطعة من اللحم ندركها بحواسنا· إنها مثل كل ما نعتقد وجوده في العالم الخارجي، ما هي إلا خيال يتراءى لنا · إذن من يدرك هذا كله؟ من يرى، من يسمع، من يتذوق؟
كل هذا يضعنا أمام حقيقة ناصعة: إن الإنسان الذي يسمع ويرى ويتذوق ويشعر، ليس سوى مجموعة من الذرات والجزيئات تشكل ما يسمى الجسم· إلا أن ما يجعل الإنسان إنساناً هي الروح التي وهبها الله لنا·وإلا فسيكون عزو المهارات والصفات التي أسبغها الله على الإنسان إلى قطعة اللحم التي لا يتعدى وزنها 1^5 كغ ضرباً من اللاعقلانية، هذا إذا لم نقل: إنها لا تتعدى كونها خيالاً· لهذا عليك أن تتذكر دائماً أن ما يجعلك إنساناً هي روح الله التي ''نفخها فينا '':
الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِيْنٍ ثمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهيْنٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيه مِن رُوْحِهِ وجَعَل لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَليْلاً مَا تَشْكُرونَ .
السجدة: .9-7
بما أن الإنسان ليس كومة من المادة وإنما ''روحاً''، فمن الذي خلق ووضع مجموعة المدركات في أرواحنا؟
حقيقة مذهلة أخرى: بعيداً عن الروائح والمذاقات والأصوات والألوان، فإن "الأبعاد" و "المسافات" أيضاً مدركات يتم إدراكها داخل الدماغ. وبناء على ما ذكرناه سابقاً فإن كل مدركات الغرفة تنتقل إلى الدماغ بشكل إشارات كهربائية. تُفسر الأحاسيس التي تنتقل إلى الدماغ كصورة للغرفة. بتعبير آخر: أنت لست داخل الغرفة التي تعتقد أنك جالس فيها، بل على العكس الغرفة هي التي تكمن في داخلك. إن مكان الغرفة في دماغك، أو دعنا نقول المكان المدرك للغرفة في دماغنا ليس أكثر من بقعة صغيرة مظلمة. كذلك فإن الساحة الواسعة التي تراها في الأفق، تتطابق في هذه البقعة بشكل من الأشكال. أنت تدرك الغرفة التي تجلس فيها والمسافة الواسعة نحو الأفق في نفس البقعة. قد تكون هذه الحقيقة لم تخطر على بالك في يوم من الأيام، ثم ها أنت ذا قد أصبحت على علم بها. فلا تتجاهل أن الغرفة الضيقة والأرض الواسعة شأنها شأن الأبعاد والمسافات، ما هي إلا مفاهيم تكمن في داخلك. |
الجواب بسيط: إنه الله الذي نفخ روحه فينا هو الذي خلق كل ما حولنا· المصدر الوحيد لهذه المدركات هو الله· لا يوجد إلا ما خلق هو· تقول لنا الآية التالية، إنه هو خالق كل شيء وإنه لاشيء سيستمر في هذا الوجود :
إنَّ اللهَ يُمسِكُ السَّمواتِ والأَرضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعدِهِ إِنَّهُ كان حَليْماً غَفُوراً . فاطر: 41 ·
وكنتيجة للثوابت التي يتعرض لها الناس منذ ولادتهم فإنهم لن يسلموا بهذه الحقيقة بسهولة· ولكن سواء سلموا بها أم تجاهلوها فهي حقيقة أكيدة· ولا يقتصر الأمر على العالم الخارجي بل يتعداه إلى الأفعال أيضاً التي يزعم الإنسان أنها من صنعه، لا تحدث إلا بمشيئة الله· لا يوجد عمل منفصل عن المشيئة الإلهية ·
واللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعْمَلُونَ . الصافات: .96
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى . الأنفال: 17 ·
الحقيقة: هي أن كل إنسان مغلق ضمن صورته الخاصة التي تظهر له من خلال الحواس. كل منا له عالمه الخاص، لا أحد يعرف ما يفعله أو يراه الآخر، بل حتى لا يمكن لأحد أن يعرف ما إذا كان الآخرون يرون أصلاً أم لا يرون؛ ذلك لأن الناس شأنهم شأن سائر الأشياء صور يتم إدراكها داخل الدماغ. هذه الحقيقة تعتبر من أهم أسرار حياتك. |
نستنتج من كل ما تقدم أن الله هو الوجود المطلق الوحيد ، لا وجود لغيره، يحيط بالسموات والأرض وما بينهما· يخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم أنه موجود في كل مكان وأنه بكل شيء محيط :
أَلا إِنَّهمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَيءٍ مُحيْطٌ . فصلت: .54
وَللهِ المَشْرقُ وَالمغْربُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسعٌ عَليمٌ . البقرة: 115·
وللهِ مَا في السَّمواتِ ومَا في الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ مُحيطاً . النساء: 126 .
وَإذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ ربَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ··· الإسراء: .60
اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا في السَّموات وَمَا في الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْديْهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلا يُحيطُوْنَ بِشيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمواتِ والأَرْضَ وَلاَ يؤُودُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ العَليُّ العَظيمُ . البقرة: 255 .
عليك أن تتذكر دائماً أن الله محيط بك، وأنه موجود في كل مكان، ومعك في كل لحظة يراك ويسمعك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد ·