إلى حكام العرب والمسلمين.. إني لكم ناصح أمين د. راغب السرجاني
من المؤكد أن قيمة الحاكم في الشّرع عظيمة، ومسئولية جليلة، وهو من أقرب الناس إلى الجنة لو كان عادلاً، ولقد ذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يُظِلُّ بظله يوم القيامة سبعةَ أصناف من عِباده، فبدأ بالإمام العادل[1]؛ لأن صلاح هذا الإمام وعدله لا يعود عليه فقط، ولا يعود على مجموعة من الأفراد فحسب، بل يعود على الأمة جميعًا. ومن هنا كان لزامًا على كل المخلصين أن يوجِّهوا نصحهم وإرشادهم إلى الحكام وولاة الأمر حتى يبصِّروهم بما ينبغي فعله، وبما يصلح شأنهم وشأن الرعيّة؛ ولذلك فإنَّ رسول الله r قال في الحديث: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ". ولما سألوه: لمن يا رسول الله؟ قال: "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"[2]. فبدأ بأئمة المسلمين؛ لأن صلاحهم صلاح الأمّة، وفسادهم فساد الأمّة.
ومن هذا المنطلق وجدت واجبًا عليَّ أن أرسل هذه النصيحة المتجردة لله عز وجل لكل حُكَّام العرب والمسلمين، وأنا على يقين أن الله عز وجل سيحملها عنّي إلى الحكام الذين يحملون في قلوبهم خيرًا؛ عسى الله عز وجل أن يغيِّر من أحوالنا إلى الأصلح والأفضل.
وسبب هذا التوقيت في إرسال الرسالة هو التزامن مع مرور إحدى وستين سنة على إعلان دولة الكيان الصهيوني في فلسطين الحبيبة، وإذا كنا نقول: إنّ هناك أدوارًا على كل المسلمين في تحرير فلسطين، فإنَّ الحكام عليهم أضعاف أضعاف هذه الأدوار، فعلى قدر المكانة تكون المسئولية، والزعامة - في تصوري - ليست تشريفًا إنما هي تكليف. أسأل الله أن يهديكم ويهدينا إلى سواء الصراط.
السادة الأجِلاَّء حكام العرب والمسلمين..
لا يغيب عن حضراتكم - أصحاب الجلالة والفخامة والسمو - الوضع المؤلم الذي تمرّ به الأرض المباركة، والأزمة الطاحنة التي تعيشها أمتنا، وهي ترى أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسولنا الأكرم r في أيدي الصهاينة المعتدين، والسنوات تمرّ فلا نرى إلا ديارًا مهدَّمة، وأراضي مجرَّفة، وحُرماتٍ منتهكة، والآلاف من الشهداء، وعشرات الآلاف من المأسورين، ومئات الآلاف من المحاصَرين والمجوَّعين، وملايين المشردين.
والسؤال: إلى متى هذا الهوان؟!
أليس هناك سبيل لتحرير الأرض المباركة؟
أليس هناك وسائل لإرجاع الحقوق إلى أصحابها؟
إنَّ البعض قد يرى القضية معقَّدة غاية التعقيد، وقد نختلف عند البحث عن طرق الحل، فنقترح عشرات ومئات الحلول، ثم نرى أن هذه الحلول ما أسفرت عن شيء، وما حققت تقدمًا، فلا بُدَّ إذن من وقفة، وإعادة النظر في الموضوع برُمَّتِهِ.
وإني - أيها الحكام الكرام - قد قرأتُ التاريخ، ووعيت دروسه، ورأيت مثل هذا الموقف عشرات المرات، فكم من بلاد المسلمين احتُلَّ قبل ذلك، وكم من الأزمات مررنا بها، ولاحظتُ أن آليات الخروج من هذه الأزمات واحدة، ولو أخذنا بما أخذ به السابقون لتحقق لنا ما تحقق لهم من مجدٍ وعز وشرف، ومن هنا أحسست أنه من واجبي أن أتقدَّمَ إليكم بهذه النصائح، وشعاري في ذلك شعار الأنبياء: إني لكم ناصح أمين..
أولاً: لا بُدَّ من تطبيق شرع الله عز وجل في البلاد؛ فقد أنعم الله عليكم بالتمكين في وطنكم، فليس مقبولاً أن يكون شكرُ النعمة هو تجنيب الشرع، فوالله إنها لأمانة عظيمة، وجب عليكم أن تقوموا بها، وهذه هي مهمتكم الأولى، وشرع الله لا يعني الحدود فقط، ولكنه يعني تطبيق ما أراده الله منا في كل أمور الحياة، وهذا يشمل مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام والجيوش والقضاء والقوانين والمعاهدات.. يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. والعقل لا يمنع أبدًا تطبيق شرع الله U، بل إنَّ عقلاء العالم من غير المسلمين يشهدون للتشريعات الإسلامية بالروعة والإبهار، وإذا كان البعض يخشى من القوى العالمية - وفي مقدمتها أمريكا - إذا رأت توجُّهًا إسلاميًّا في البلاد، فإني أؤكِّد لكم أن الله عز وجل لا يترك من لجأ إليه، وأنكم بتطبيق شرع ربِّكم تنالون نصره وتأييده، وعندها لا تقف أمامكم قوةٌ في الأرض، فإذا أردتم عزًّا في الدنيا فعليكم بالقرآن والسُّنَّة، وإذا أردتم عزًّا في الآخرة فعليكم بالقرآن والسنة، وإذا أردتم عزًّا فيهما معًا فعليكم بالقرآن والسنة.
إننا - أصحاب الجلالة والفخامة والسمو - لا يمكن أن نحقِّق نصرًا بغير تأييد الله لنا، والأمرُ بأيدينا، فقد قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. فطلب منا كخطوة أولى في طريق تحقيق النصر أن ننصر الله U، ونصرُنا لله يكون بتطبيق شرعه، وتنفيذ قانونه.. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
ومن هنا فأوَّل الخطوات لتحرير فلسطين، وكل البلاد السليبة، وكذلك الخروج من كل الأزمات السياسية والاقتصادية وغيرها، هي - بلا شك - تطبيق الشريعة الغَرَّاء التي سمتْ فوق كل قوانين الأرض.
ثانيًا: حفظ مكانة العلماء في الأمة:
لسنا في حاجة لتوضيح قيمة العلماء في الأمة، فقد جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء، وهم بذلك قد نالوا شرفًا ما ناله أحد، وإذا أردتم عِزَّة وشرفًا فعليكم بحفظ مكانة العلماء، وتقديم رأيهم، والاستماع إلى نصحهم، فكم من القضايا تلتبس على أفهام الناس، ويكون حلُّها عند عالم مخلص، لا يسعى إلى مديح، ولا يهدف إلى سلطة أو ثروة.
ولسنا نعني بإبراز قيمة العلماء أنهم سيقودون الأمة بدلاً منكم؛ فنحن نعرف جيدًا أن الساسة والأمراء لهم نظرة قيادية قد تغيب عن العلماء، ولهم دراية بفنون الإدارة والنظام، وبفنون التفاوض والتصالح، وكذلك بفنون القتال والمعارك.. إننا نريد تعاونًا وتكاملاً بين الأمراء والعلماء، ويوم يحدث هذا التعاون فإننا سنرى ثمارًا لا نحلم بها، ونعيش في مجدٍ لم نفكر فيه.
إنَّ حقيقة الأمر - أصحاب الجلالة والفخامة والسمو - أن كثيرًا من العلماء في الأمة الإسلامية ممنوعون - للأسف الشديد - من الكلام، ولا يستطيعون أن يصلوا بنصائحهم إلى شعوبهم فضلاً عن حكامهم، بل قد تجد ثُلَّة من العلماء في غياهب السجون، وقد نُسيت قضيتهم، وضاعت أوراقهم، وهذا وضع لا يُرجى معه رفعة، فاللهَ اللهَ في علماء الأمة؛ فإنهم الذين يحملون مشاعل النور، وبغير كلماتهم تتوه الأمة وتضل.
ثالثًا: من أبرز أسباب الأزمة التي تعيشها الأمة، والتي تعتبر قضية فلسطين أحد أبرز مظاهرها، مسألة الفُرقة التي يعيشها المسلمون بكل أبعادها. ومن هنا فلا تحرير لفلسطين ونحن مشتتون ممزقون، فبادروا إلى توحيد كلمتكم، وسارعوا إلى تجميع قوتكم، فإن يد الله عز وجل مع الجماعة كما أخبر رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم[3]. ولنبدأ بالوَحدة الداخلية في كل قُطر، حيث يصطلح الحاكم مع شعبه، ويبدأ في تجميع كل القُوى في وطنه لخدمة أهداف المجتمع ككل، ولا داعي للتصادمات العنيفة التي نراها في كثيرٍ من الأقطار، والتي يكون من جرَّائها تهميش قوى فاعلة، وإقصاء عناصر جيدة، وهذا أمرٌ بالغ الضرر على الفرد والمجتمع.
[/size]